نبأ- وكالة الصحافة الوطنية

نبأ- وكالة الصحافة الوطنية

الأسرى يحتاجون إلى برنامج يحررهم وليس حملة انتخابية!

موسى جرادات.jpg

بقلم| موسى جرادات:

تعد قضية الأسرى في سجون الاحتلال المجهر الحقيقي لرؤية حال القضية الفلسطينية وما أصابها من تراجع على كل الصعد؛ فهي الكاشفة لكل أشكال اللغو الذي يلف الخطاب السياسي لمختلف القوى الرسمية، والفصائلية؛ فالأسرى الذين امتلأت بهم سجون الاحتلال، وأخذت من أعمارهم سنوات طويلة، ما تزال قضيتهم محكومة بردّات الفعل الموسمية، والتي لا تتعدى حدود التضامن الشعبي، والذي لم يرتقِ إلى بناء تصور قابل للتنفيذ؛ قادر على تحريرهم من السجون، لأنهم بكل بساطة مادة القضية الحية، ولولاهم ما كان للقضية أن تتحرك قيد أنملة.

لسنوات خلت كان الأسرى محملين بالأمل، مدفوعين بقوة إيمانهم بعدالة القضية التي قاتلوا وناضلوا من أجلها، لكن ما جرى وما يجري الآن من حالة التشتت والانقسام وخواء النخبة السياسية الفلسطينية وتهاويها إلى الدرك الأسفل؛ جعلهم يقاسون تجرع الأسر مرتين: الأولى معاناتهم أمام السجان الذي يبتدع كل الطرق والوسائل الوحشية التي يراد بها كسر شوكتهم وإيصالهم إلى حالة اليأس وتحويلهم إلى عبرة لمن أراد أن يسلك طريقهم، والثانية النظرة العامة من قبل القوى التي انتموا إليها، والتي يتملكها العجز المطلق، والتي حولتهم بفعل سياساتها اليومية إلى مجرد قضية مالية، وحسابات بنكية لأهلهم وذويهم.

وما بين مطرقة السجان وسندان العشيرة الصغرى والكبرى تمضي أيامهم دون إجابة واحدة تتعلق بمصيرهم الذي بات على حافة النسيان؛ فمنذ احتلال الأرض الفلسطينية أو ما تبقى منها في العام سبعة وستين كان الأسرى المشعل المتقد دوماً، والقادر على أن يمتلك التأثير الكبير على مجريات الصراع المحتدم مع الاحتلال؛ ففي تلك السجون استطاع الأسرى المضي قدماً في بناء الذات الثورية، وتحصينها في داخل السجون وفي خارجها، حتى جاءت اتفاقية أوسلو بكل ما حملته من انقلاب على الذات الفلسطينية ومكوناتها الثورية ونضالاتها المتراكمة لتطوي صفحة وتفتح صفحة أخرى، لا تشبه أحداً فينا.

ومع ازدياد التناقضات التي أفرزتها الأوسلوية المقيتة، من قوى ونخب سياسية وأمنية تعتاش على عذابات الأسرى وعذابات شعبها؛ أصبح الأسرى في دوامة لا تنتهي؛ فمنطق الاحتلال ما زال هو، ولغة الأهل هي التي تغيرت وتبدلت وتحولت وأصابها التلف، بل وامتدت لتطالهم جميعاً، بحيث أصبحوا أسرى لتلك القوى التي أدخلتهم في بازار مع الاحتلال طوال سنين أوسلو وأجهزتها، والأمثلة على هذا البازار المفتوح لا تعد ولا تحصى، ومنها تدخل قوى فلسطينية رسمية على خط إضرابهم عن الطعام وهو سلاحهم الوحيد في مواجهة المحتل؛ تدخل قام على كسر إضرابهم أكثر من مرة، والعبث بوحدة الحركة الأسيرة، يضاف إليه تحويلهم إلى جماعات داخل السجون وتفكيكهم من كونهم حالة واحدة إلى قوى متعددة متناقضة في الأهداف والمطالب.

تلك الأمثلة جزء يسير من حالة الأسر المزدوج التي خضع لها الأسرى؛ فتحولوا من أداة تأثير إيجابي كمدرسة في الكفاح إلى أسرى لدى نخبة مريضة تعيش لهدف واحد، وهو تأمين مصالحها الفئوية على حساب الأسرى والشعب برمته، حتى لو اقتضت الضرورة أن يتحولوا إلى أداة وظيفية في مدرسة المنسق.

وأمام هذا المشهد؛ يصبح الحديث عن قضية الأسرى بكونها قضية شعب؛ مجرد ضرب من ضروب العبث لا يؤدي إلى أي نتيجة، بعد أن تحولت الثورة الفلسطينية من مثال حي تضرب فيها الأمثال لكل شعوب الأرض قاطبة، إلى حالة موت سريري شارك الجميع بها من متواطئ وعاجز وشاهد على هذه الحالة الرثة التي تلف القضية برمتها وتخنق الأسرى عمود الخيمة.

فلا يمكن مقاربة قضية الأسرى دون مقاربة القضية برمتها، ولا يمكن مقاربة القضية دون احتضان الأسرى، ومدهم بكل أسباب القوة والصمود، ولا يكفي الأسرى وضعهم على قوائم الترشيح للانتخابات؛ فهذا لا يزيل عنهم الغبن الذي لحق بهم طوال عقود، لأن وضعهم على تلك القوائم هو امتداد لنفس الخط الذي انتهجته القيادة الرسمية والفصائلية، لتغطي عجزها الواضح والمفضوح، وهو أيضاً يمتد ليدخلهم في بوابة الملهاة العبثية التي طالت أكثر مما يجب وتخطت حدود المعقول؛ فمشاركتهم الترشح لانتخابات المجلس التشريعي لن تقدم خطوة واحدة على طريق انتزاع حريتهم المعروف طريقها سلفاً، والذي لم يتحقق حتى هذه اللحظة؛ فأسرانا، الذين يمثلون نقطة النور التي تكاد تكون وحيدة في قضيتنا، والذين منهم نستمد شرف الصمود والقدرة على الاستمرار؛ يحتاجون منا ليس لحملة انتخابية، بل لبرنامج سياسي وكفاحي يحررهم من أسرهم؛ رغماً عن أنف السجان، ولا يتركهم لقمة سائغة حتى تنتهي محكومياتهم أو يحررهم الموت في الزنازين، ولا يسعني القول في هذا المقام سوى: يا عارنا منهم ومنا.

وكالة الصحافة الوطنية