رام الله-نبأ-رنيم علوي:
جدرانٌ صامتة، وأبوابُ مُحكمةِ الإغلاق، وجسدٌ بَشَريّ يعيش في أنقاضِ غٌرفةٍ لا شمسٍ ولا ظِلٍّ منذ سنواتِ السنين، هذا هو حال الأسير نائل البرغوثي منذ 43 عامًا.
لم ينعم بالحريةٍ إلا أياما معدودة ليعود مرةً أُخرى إلى هذهِ الغرف القاتمة، حتى باتَ شاهداً على تغيّرات هذه الغرفة، فَبّدلت أبوابها مِئات المراتِ في حُضوره، عاشر من هم مثله في الغرفة ثم خرجوا وبقي هو في الداخل، تبّدلت الأجيال واختلفت العصور وهو ما زال داخلَ هذهِ الغرفة.
نائل البرغوثي (65 عاماً) من بلدةِ كوبر بمحافظة رام الله، اعتقل في عام 1978، وأمضى 34 عاماً، بشكل متواصل في سجون الاحتلال الإسرائيلية، تحرر في صفقة التبادل بين حركة "حماس" والاحتلال في 2011، ثم أُعيد اعتقاله في 2014 إلى جانب العشرات من المعتقلين المحررين بالصفقة، وإذ يعتبر أقدم أسيرٍ فلسطيني قضى ما يقارب 43 عاماً في سجون المحتل، وهو أخُ لأبي عاصف وشقيقته حنان البرغوثي.
نائل البرغوثي على لسان أٌخته
لم يسمح نائل لِـنفسه أن يبقى نصف عُمرهِ وهو داخل هذه الزنزانة دون أن يُنعم نَفسه بالمعرفة، فقد حصلَ على عِدة شهاداتٍ لم تَكن من الجامعات العبرية بل المصرية، فيما حِفظ القرآن الكريم كاملاً، وتابع الطريق إلى أن حَصل على شهاداتٍ فخريّة في تِلاوةِ القُرآنِ الكريم والتجويد، فما لَبث إلا أن باتَ يُعطي دروساً تاريخية وعبّرية في داخل السجن، بحسب ما قالته حنان البرغوثي شقيقة نائل لِـوكالة " نبأ".
"جوجل فلسطين في التاريخ" هذا ما يُلقب به البرغوثي في السجن من شدة ما يكمن في عقله من معلومات معرفية عن التاريخ الفلسطيني، واستذكرت حنان موقف السنة التي خرج فيها إلى أحضانهم قبل إعادة اعتقاله، تقول: " ابني كان عنده مسابقة في المدرسة، سألني عن آية موجودة في أي سورة، بهداك الوقت كان نائل عندي وقال له أي سورة من وقتها عرفت إنو حافظ للقرآن كونه ما بحب يحكي عن حاله كثير".
فيما وتابعت البرغوثي الحديث عن أخيها، تقول: " نائل يُتقن 5 لغاتٍ منها العبرية والألمانية والفرنسية، إلا أن اللغة الإنجليزية لا يقترب منها أبداً، وذلك لإيمانه التام أن الإنجليز هم سبب النكبة على أرض فلسطين ووعد بلفور، ودائماً يُردد: " هاي اللغة اللي دمرتنا واللي خلتنا نضل شعب محتل وأرض محتلة، هم اللي سلمونا لليهود".
رسائل عبر البريد
وبنبرةٍ اجتاحها الحزن، عبّرت حنان عن شوقها لأخيها مستذكرة أيامَ فرحها عندما وصلتها رسالة أخيها من السجن ثمّ البريد إلى أن وصلتها، حتّى شعرت بأنه بينهم، إذ عبّرت عن جزءٍ ورد في الرسالة، "والله كبرتي واتزوجتي رغم إنه أمي كانت اتضل تغنيلك حنونة زيت المونة خسارة عليها للبيت، شو السبب يا أختي إنه أمي زوّجتك وإحنا مش عندك".
استمرت الحياة، ونائل ما زال خَلف تِلك القضبان، حنان تزوجت وأنجبت أولاداً لها، وأخيها أبو عاصف أيضاً تزوج واصبح لديه أولاد، وما زال نائل في السجن.
تقول حنان: كان والدي دائم العزمِ في محاولةٍ منه لِـسّدِ مكان أخي في كل الأفراح، ف عند ولادتي كان دائماً يقول لي: " هذا النقوط منّي، وهذا من نائل" كان نائل دائم الاستمرار في توصية والِديه على حنان لما يَكِنُّ لها في قلبه أهمية كبيرة، رداً على ما كانت تقوم بهِ من أجله، فتقول أنها زارت سجن نفحة مع ولدِها عمر ابن الـ 35 يوماً ذات مرة لزيارةِ نائل، اليوم عُمر اعتقل وخرج وفي شهر حزيران القادم يومَ عُرسِه مع شريكة عُمره.
" فرخة أنجبت ديك"
مات الأب، وماتت الأم، ولم تبقى ذكرى لهم، فتحدثت الروايات الفلسطينية عنهم وفي رواية فرحة للكاتب الفلسطيني وليد الهودلي تحدث فيها عن فرحة وابناءها الأبطال.
إذ استذكر الهودلي ذات مرة حدثٍاً عن فرحة عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي منزلها بحثاً عن ابناءها عمر ونائل، فقال أحد الجنود من وراء الباب" افتخي الباب يا فرخة"، وعندما فتحت، ردّت بنفس الأم المناضلة الصابرة " صحيح أنا فرخة بس خَلَفت ديوك" إذ شبّهت أولادها بالديك الذي يتمتع بالحرية والاستقلالية القيادية.
تقول حنان، نائل لم يَكن حاضراً وفات والدّي، إلا أنه كان حاضراً شعورياً فقد تعلمنا منه الصبر، فَبداخل نائل صبر أيوب 43 عاماً، فقد اتغير العالم، ومات محققين شهدهم نائل وجاء غيرهم وهو ما زال صامداً، بين جدران السجن، فلم نَعش معه سوا سوى رمضان في السنة التي خرج منها قبل إعادة اعتقاله، وكانت هذه المرة هي الوحيدة التي اجتمعنا فيها كأخوة كاملين بين والدينا، ومن ذلك الوقت إلى هذا اليوم وزوجته في كل رمضان تضع صحناً خاصاً بزوجها على طاولة الافطار.
الأسرى في وضع مُعقّد جداً
ومن جهته قال مدير الإعلام في هيئة شؤون الأسرى والمحررين ثائر شريتح ، إن الأوضاع في السجن بالفترة الحالية معقدة جداً؛ وذلك بسبب الممارسات الإسرائيلية التي تسعى إلى فرضِ أمرٍ واقعي جديد، إلا أنه وبالرغم من تراجع إدارة السجون على العديد من الإجراءات العقابية فما زالت الأوضاع العامة والصحية معقدة وبحاجة إلى الكثير لكي تعود السجون لِما كانت عليه، والأسرى بحاجة إلى تدخل من المؤسسات الحقوقية للإطلاع على واقع الأسرى المرير داخل السجون.
وأردف شريتح أن إدارة السجون تضييق على الأسرى في موضوع الزيارات، فهي استغلت جائحة كورونا للتقيل من زيارات الأهالي، إذ هناك صعوبات كثيرة يواجهها الأسرى في الزيارات كَـالالتزام بكل ما فرضته الجائحة للقيام بالزيارة وحرمات الأسرى من احتضان عائلاتهم.
وصف شريتح الأسرى بالصابرين؛ وذلك نظراً لما يواجهونه من ظروف حياتية وصحية صعبة أمنياتهم دائماً في مكانها وهي أن ينعموا بإحياء شعائر الشهر الفضيل بين أبنائهم وأسرهم، فإن معنوياتهم رغم ذلك صابرة ومرتفعة وهم دائماً يتشبثون بكل وسائل الفرح التي من الممكن أن يحصلوا عليها حتى وهم داخل السجون.
وأكد شريتح لِـوكالة " نبأ" أن خروج الأسرى من خلفِ تلك القضبان مرهوناً بعدد الجنود الإسرائيليين الموجودين في حوزة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وفي الفترة الأخيرة هناك جهود في الإفراج عن الأسرى الدفعة الرابعة والمعتقلين من قبل توقيع إتفاقية أوسلو.
ومن الجدير بالذكر، أنه يوجد في سجون الاحتلال حتى اليوم، حوالي 5 آلاف أسير، ويوجد بينهم 117 أسيراً مضى على اعتقال كل منهم 20 عاماً، وهم الذين يطلق عليهم اسم "عمداء الأسرى".
وحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين فإن قائمة "عمداء الأسرى" ضمت أسيرين جديدين ، مع بلوغ حازم صادق القواسمي (43 عاماً) من الخليل، وعماد راجح سرحان (43 عاماً) من مدينة حيفا، 20 عاماً.
ومن بين "عمداء الأسرى" يوجد نحو 35 أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من 25 عاماً، وهؤلاء يُطلق عليهم الفلسطينيون مصطلح "جنرالات الصبر"، منهم 25 أسيراً معتقلون منذ ما قبل "أوسلو".