رام الله-نبأ-رنيم علوي:
لم تكن الحياة حانيةً عليه حينما أهدته سهماً مغموراً بسموم التمني، فقد جاء الشاب مصطفى علوي ابن مدينة رام الله قبل 22 عاماً إلى هذه الدنيا فاقداً لحاستي النطق والسمع.
جلس والداه "كفاية وغسان" أمام أحد الأطباء في غرفة الزيارات بمستشفى الهلال الأحمر عندما أخبرهم الطبيب عن فقدان ابنهم البالغ من عمره ثلاثة أشهر لحاستي السمع والنطق.
ما يراه مصطفى في حياته اليومية من حركة الشفاه التي تشبه العجز بالنسبة له، أنه يرى حركة ولا يسمع لها صوت، تشعره بالنقص والألم، لأنه لا يستطيع مشاركة من حوله لعدم فهمه ما يدور، لكن كل من ينظر في عيني مصطفى يعلم أنه مليء بالأمل والإرادة، إلا أن نظرة المجتمع المتدنية لتلك الفئة من الأشخاص التي قضت على إرادة مصطفى في بداية الطريق.
مصطفى أخ لشقيقين وشقيقتين وهو أصغرهم، يبلغ من العمر الآن (22 عاماً)، كسر حاجز النظرة المتدنية بصراعه كأنه يقول "الحياة لا تهزمنا إلا إذا أردنا نحن ذلك".
في حديثٍ عن مصطفى
قالت والدته " كفاية علوي" في بداية حديثها: " الناس ما بترحم أبداً بحاولوا بأي طريقة يكسروا قلب ابني، عشان ما يشوفوا ناجح بحوّلوا قلبه لشقف مكسورة".
لم تتخالط أقوال والد الشاب مصطفى مع والدته فقد عَبّر عن حالة وَلده بطريقة برقت فيها عيناه عندما خاطت شفتاه كلماتٍ سهلٌ سماعها لدى الجمهور، ولكنها صعبة على من عاش الواقع مع الكلمات.
"مصطفى تحدى نفسه وإعاقته قبل كل شيء، فقد عاش واقعه بم، ولم يسمح لنا أن نشاركه وندعمه إلا بالقليل، أبني رغم إعاقته صعد على سلم الصعوبات ومارس الثانوية العامة واستطاع أن يحصد بجهده وإرادته المرتبة الثالثة للصم في فلسطين " هذا ما قاله والد مصطفى غسان علوي.
وعندما وجهنا قبلتنا لمحور الموضوع، للشاب مصطفى: لم يَترك تعبيراً إلا ورُسم على وجهه، ولم يترك إشارة إلا وعبر عنها، استطاع بإشارته أن يغرس فكرة يريد أن تصل لكل من يشعر بالنقص اتجاه نفسه.
" كُنت أحلم"
بدأ مصطفى حديثه (الحديث بلغة الإشارة): عندما كنت صغيراً كنت أحلم بأن أكون مصوراً، ولكن عجزي دائماً كان يحطم حُلمي، اكملت تعليمي المدرسي برغبة من والداي، ولم أكن ذلك الطالب الذي يميل للدراسة، حتى عندما وصلت المرحلة الثانوية لم أكن أخطط للنجاح.
مصطفى ترك حلمه يغرق في فمه في البداية تنازل عن حقوقه، وسلّم نفسه لكلمات المجتمع ونظرتهم المتدنية، لم يكن يعلم في البداية أنه يستطيع تحويل المستحيل إلى ممكن، وعندما تابع حديثه لمعت عيناه كأنه كان يريد أن يبدأ بوصف المعجزة التي انقلبت عليه، وحلمه الذي اغرقه في فمه خرج منه وأغرقه في أفواه المجتمع: " عندما خطت أقدامي مداخل أبواب الثانوية العامة لم أكترث بالبداية، لكن في نهاية المطاف جلست بيني وبين نفسي والدمع يرافقي المجلس اتذكر ما أعاني منه، وما يحدث معي عندما أخرج للمقاهي أو أجوب الشوارع ولا أفهم ما يدور حولي أكره نفسي وأتمنى أني لو لم آتي على هذه الدنيا، كنت دائماً أكرر (أنا ما بحب حياة، أنا ما بحب نفسي).
وأردف مصطفى: "ربما شاء ربي أن يحرمني سماع أصوات من حولي، والأصعب منهم عدم سماعي لصوت والداي وصوتي أنا، ولكن عوضني بشيءٍ آخر وهو نجاحي بالثانوية العامة كأفضل شخص يُمثل أمام من هم مثلي، ولم تقف تلك الأمور على نجاحي فعندي أحلام كثيرة لم أسمح لها أن تتبخر".
رفضٌ جامعي
بعد التخرج وطأت أقدام الشاب مصطفى مداخل أبواب الجامعة قرر أن يكمل حلمه الذي تخلى عنه بالبداية، كانت قبلته موجهة اتجاه جامعة بيرزيت ولكنه صُدم بأن جامعة بيرزيت لا تقبل به كونه فاقداً لروح السمع، غير اتجاه قبلته أمام كلية الطيرة هناك أكمل تعليمه حيث قبلت به الجامعة ولم تستهن بقدراته، فاستطاع أن يثبت نفسه كمصورٍ بارع خلال 6 أشهرٍ.
فمصطفى صاحب الإرادة رغم العجز هو مثال لمن مثله ولم يعانون من يأس الحياة، لم يسمح للحياة أن تهزمه، على عكس غيره من الناس الذين تركوا انفسهم للحياة كي تلقي بهم بعيداً مثل البحر الذي لا يلقى شيء منه إلى الخارج إلا وكان جثة هامدة.
ذوو الإعاقة بشكل عام، والأصم بشكل خاص يتعرضون للإنتقاد، والتقليل من قيمة نجاحهم ويتلقون بالعادة كلماتٍ تُترك في قلوبهم كبصمة عارٍ لهم مدى الحياة، ولكن منهم من يدفن تلك البصمة ويسير ومنهم من يبقيها ويتركها تنهش جسده كالسرطان.
" لا تعجزه المستحيلات"
محمد علوي (32 عاماً) أخ مصطفى: مصطفى ما زال يكافح الإعاقة، بالرغم من صعوبة العيش، إلا أنه ما زال يمشي خطوة بخطوة وتاركاً في خطوته الماضية بسمة له، وما قالته والدته، مصطفى ليس لأنه ابننا نقول هكذا عنه فهو فعلاً انتقل نقلة نوعية وغيّر من نظرة المجتمع كله له ولمن يشبهونه.
أقارب مصطفى وصفوه بأنه شابُ لا تعجزه المستحيلات، وأن كلمة مستحيل، لا يراها في طريقه، وقالو إنه ربما كان يحزن على حاله ولكنه لم يُظهر حزنه لنا، فنحن لم نراه إلا وهو مبتسم.
مصطفى عمل كمصورٍ متجول، ولاعب كرة قدم يُسافر للخارج كي يمارس هوايته، وأيضاً عمل كمندوب مبيعات.. واليوم قرر أن يكمل دراسته في جامعة القدس المفتوحة " فرع إدارة أعمال" وهو الآن سنته الثالثة والأخيرة، إذ أنه موظف في ديوان الموظفين وحصل على التثبيت في مهنته قبل عدة أشهر، بالإضافة إلى أنه افتتح محلاً له يبيع فيه الوجبات السريعة "كالمسحب والباشكا والبطاطا".
ها هو الفتى الذي ترك العجز يسيطر عليه، ثم انقلب ضده وسيطر هو على العجز كي يُصبح الشاب الناجح.. وأوصل فكرته أن لا حياة مع العجز ولا عجز مع الحياة، وأثبت صحة ما قاله إن الحياة لا تهزمنا إلا إذا أردنا نحن ذلك.